مقدمة:أرى أن الدعوة لفصل الإيمان عن السياسة لا معنى لها، وبالمثل الدعوة لفصل الله عن المجتمع أو فصل الدين عن الحياة اليومية. الفصل الوحيد الذي أدعو له بقوة هو الفصل بين المؤسسات الدينية والدولة (ولا أقول الدين بشكل عام بل المؤسسات الدينية).
أنا كمؤمن بالله أدعو كل مؤمن أن يجعل حياته اليومية تعبيرًا عن إيمانه بالله وعن تمسكه بمبادئ دينه، وكمؤمن بالديمقراطية أدعو لتطبيقها واثقـًا أن من خلالها تصبح سياسة الدولة تعبيرًا عن إرادة الجمهور بكل ما تحمل هذه الإرادة من جوانب منها الجانب الإيماني والديني دون الحاجة للخلط بين أجهزة الدولة والمؤسسات الدينية مثلما هو الحال في مصر.
تحليل ونقد الوضع الحالي في مصر:يرد في المادة رقم 2 من الدستور المصري الحالي أن "الإسلام دين الدولة" وأن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وإن بدا هذين النصين، للوهلة الأولى، متماشيين مع رغبة المسلمين وهم أغلبية الشعب المصري، إلا أنهما يطرحان العديد من المشاكل.
أولا ً: مقولة أن الإسلام دين الدولة ليست دقيقة لأن الدولة في مفهومها المجرد ليست كائنـًا بشريًا يؤمن ويعبد الله، بل من يؤمن ويعبد هو الإنسان أي الفرد الذي يكوّن المجتمع ويبني الدولة. وإذا اقترح البعض أن يقول الدستور أن "الإسلام دين الشعب المصري" سوف يكون ذلك تعبيرًا أفضل لكنه ليس دقيقـًا لأن الإسلام دين الأغلبية وليس دين كل الشعب المصري مما سوف يؤدي لمشكلة أكبر. بناءً على ذلك أقتر أن يذكر الدستور أن "الشعب المصري يؤمن بالله" دون تحديد الإسلام أو أي ديانة أخرى.
ثانيًا: تعبير "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وإن بدا منطقيًا لأن أغلب المصريين يؤمنون بالشريعة، إلا أن وجوده في الدستور بهذا الشكل لا يجعله تعبيرًا عن إرادة الجماهير المؤمنة بل يعطي جزء كبير من السلطة لمجموعة محدودة من رجال الدين بصفتهم دارسي ومفسري هذه الشريعة.
ثالثـًا: هذه المجموعة من العلماء ورجال الدين المتمتعون بهذه السلطة مثل مفتي الجمهورية وشيخ الأزهر والبابا بالنسبة للأقباط، وهم رؤساء المؤسسات الدينية الكبرى في مصر، يتم اختيارهم بتدخل من رجال الحكم إما بالتعيين المباشر أو بوجوب موافقة أجهزة الدولة والأمن عليهم، مما يجعل مصدر سلطاتهم ليس فقط مستمدًا من علمهم ومن انتخاب أعضاء مؤسساتهم لهم بل أيضًا مستمدًا من علاقاتهم مع الحكام والإرادة السياسية. أرى أن ذلك يقلل من مصداقية الممارسة السياسية لرجال الدين ولمؤسساتهم.
رابعًا: هناك خلط مالي واضح بين أجهزة الدولة والمؤسسات الدينية، وأكبر دليل على هذا هو وجود وزارة اسمها وزارة الأوقاف على رأسها وزير عضو في الحكومة لإدارة الأوقاف التي هي في الأصل أراضي وعقارات وهبها المؤمنون لمساندة المؤسسات الدينية ودور العبادة. وجود هذه الوزارة يجعل الدولة والحكام يبدون وكأنهم الأوصياء الذين يرعون أموال المؤسسات الدينية وكأن هذه المؤسسات غير قادرة على إدارة شئونها المالية. ما الذي يضمن ألا تقوم الدولة باغتصاب أموال الأوقاف بدون وجه حق أو بالعكس بدعم المؤسسات الدينية من أموال دافعي الضرائب دون وجه حق في ظل هذا الخلط المالي؟
خامسًا: يحاول رجال الحكم أن يظهروا بمظهر المدافعين عن الدين ويحظون بمباركة رجال الدين مما يعطي إيحاءً بوجود جزء من الشرعية الدينية لحكمهم، وأعتقد أن الهدف من ذلك هو تعويض نقص الشرعية الناتج عن ضعف الديمقراطية وقلة مشاركة الناخبين.
تحليلي للموقف هو أن الخلط الكائن في مصر بين أجهزة الدولة والمؤسسات الدينية ليس عبثـًا ولا صدفة، بل هو صفقة ضمنية رمزية يفرضها رجال الحكم ويضطر رجال الدين لقبولها، يتم بمقتضى هذه الصفقة تبادل المنفعة خصوصًا في صالح رجال الحكم، وذلك على حساب الجماهير بصفتهم مؤمنين بالنسبة للمؤسسات الدينية ومواطنين بالنسبة للدولة.
اقتراحي للدستور المنشود:لا أريد دستور يسمح للحكام أو للمؤسسات الدينية أو لمن يفترضون في أنفسهم صفة دينية أن يستغلوا إيمان المصريين لتحقيق مكاسب سياسية. لهذا أدعو للآتي:
* أن ينص الدستور بوضوح على أن الشعب المصري (المواطنين وليس الدولة) يؤمن بالله ويحترم جميع الأديان التي تدعو لعبادة الله الواحد.* أن ينص على أن الإرادة الشعبية هي المصدر الوحيد للتشريع.
* ألا يجوز للدولة إدارة الأوقاف التي يجب أن ترد إلى أصحابها وهم المؤسسات الدينية ودور العبادة، وألا يجوز للدولة تمويل المؤسسات الدينية (فيما عدا ترميم وصيانة دور العبادة ذات الصفة الأثرية).
وللحديث بقية.